أصبح مصطلح “الأثر الكربوني الصافي الصفري” (Net Zero Carbon Footprint) شعاراً يتردد في كل منتدى دولي، وهدفاً تسعى إليه الحكومات والشركات بل والأفراد. لكن ما الذي يجعل هذا المصطلح بهذه الأهمية؟ ولماذا يُعتبر تحقيق الصافي الصفري للكربون أحد أهم التحديات التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين؟ في هذا المقال، سنغوص في تفاصيل هذا المفهوم، ونستكشف آثاره على البيئة والاقتصاد والمجتمع، مع تسليط الضوء على سُبل تحقيق هذا الهدف الطموح.
التعريف العلمي
الأثر الكربوني الصافي الصفري يعني تحقيق التوازن بين كمية انبعاثات غازات الدفيئة التي تُطلق في الغلاف الجوي وكمية الانبعاثات التي يتم امتصاصها أو تخزينها. بعبارة أخرى، عندما تصل الانبعاثات الكربونية إلى “الصفر الصافي”، فهذا لا يعني بالضرورة التوقف التام عن إطلاق الكربون، بل يعني تعويض كل طن من ثاني أكسيد الكربون المنبعث عبر إزالته من الغلاف الجوي، سواء عن طريق الطبيعة (مثل الأشجار والمحيطات) أو عبر التقنيات البشرية (مثل احتجاز الكربون وتخزينه).
الفرق بين الصافي الصفري والحياد الكربوني
قد يختلط على البعض مصطلح “الصافي الصفري” مع “الحياد الكربوني” (Carbon Neutrality)، لكن هناك فرقاً دقيقاً:
- الحياد الكربوني: يركز على تعويض الانبعاثات عبر مشاريع مثل زراعة الأشجار أو شراء شهادات الكربون، دون بالضرورة خفض الانبعاثات نفسها.
- الصافي الصفري: يشمل خفض الانبعاثات إلى أدنى حد ممكن أولاً، ثم تعويض ما تبقى منها عبر امتصاص الكربون.
وهذا يجعل الصافي الصفري هدفاً أكثر طموحاً وشمولية.
الأسباب التي تجعل من الصافي الصفري ضرورة وجودية
١. مواجهة تغير المناخ
وفقًا لتقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، فإن ارتفاع درجة حرارة الأرض بمقدار ١.٥ درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية سيؤدي إلى كوارث غير مسبوقة، مثل:
- ذوبان الجليد القطبي وارتفاع منسوب البحار (مهددًا مدنًا كبرى مثل ميامي وشنغهاي).
- تزايد وتيرة الظواهر الجوية المتطرفة (أعاصير، فيضانات، موجات جفاف).
- انهيار النظم البيئية (مثل موت الشعب المرجانية التي تعتمد عليها حياة ٢٥٪ من الكائنات البحرية) [١].
ولتجنب هذه السيناريوهات، يجب أن تصل انبعاثات الكربون العالمية إلى الصافي الصفري بحلول عام ٢٠٥٠، وهو الموعد النهائي الذي حددته اتفاقية باريس للمناخ [٢].
٢. حماية الاقتصاد العالمي من الانهيار
تتوقع دراسة نشرتها مجلة Nature أن عدم تحقيق الصافي الصفري قد يكلف الاقتصاد العالمي خسائر تصل إلى ٦٠٠ تريليون دولار بحلول نهاية القرن، بسبب الأضرار الناجمة عن الكوارث المناخية، مثل:
- تدمير البنية التحتية.
- انخفاض الإنتاجية الزراعية.
- نزوح ملايين الأشخاص بسبب المناخ [٣].
في المقابل، يشير منتدى الاقتصاد العالمي إلى أن الاستثمار في التحول الأخضر يمكن أن يخلق فرص عمل جديدة لأكثر من ١٠٠ مليون شخص بحلول ٢٠٣٠، في مجالات مثل الطاقة المتجددة والزراعة المستدامة [٤].
٣. العدالة المناخية: مسؤولية تاريخية
تشير البيانات إلى أن الدول الغنية (مثل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي) مسؤولة عن ٦٣٪ من الانبعاثات التاريخية، بينما تتحمل الدول الفقيرة، التي تساهم بأقل من ٣٪ من الانبعاثات، العبء الأكبر من آثار تغير المناخ [٥]. تحقيق الصافي الصفري ليس مسألة بيئية فحسب، بل هو قضية أخلاقية تتطلب تعاونًا عالميًا لدعم الدول النامية في مواجهة التحديات المناخية.
التحديات الكبرى في طريق الصافي الصفري
١. الاعتماد على الوقود الأحفوري
الاعتماد على الوقود الأحفوري هو إدمان يصعب التخلص منه حيث لا تزال ٨٠٪ من الطاقة العالمية تأتي من الفحم والنفط والغاز، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية [٦]. والتحول إلى مصادر متجددة يواجه عقبات مثل:
- التكلفة الأولية العالية: بناء محطات طاقة شمسية أو رياح يتطلب استثمارات ضخمة.
- عدم الاستقرار في الإمداد: الطاقة المتجددة تعتمد على عوامل طبيعية (مثل سطوع الشمس)، مما يتطلب تطوير تقنيات تخزين فعالة.
٢. معضلة الصناعات الثقيلة
قطاعات مثل الصناعات الثقيلة (الصلب، الأسمنت) والطيران والشحن البحري تُعتبر “صعبة التخفيف” (Hard-to-Abate)، لأنها تعتمد على عمليات تنتج انبعاثات كربونية عالية يصعب استبدالها بتقنيات حالية. على سبيل المثال، إنتاج الأسمنت مسؤول عن ٨٪ من انبعاثات الكربون العالمية، ولا توجد حتى الآن تقنية ناضجة لتحييد هذه الانبعاثات [٧].
٣. التمويل: من سيدفع الفاتورة؟
تقدر الأمم المتحدة أن تحقيق الصافي الصفري يتطلب استثمارات سنوية تصل إلى ٥ تريليونات دولار حتى عام ٢٠٣٠. لكن الدول النامية، التي تعاني أصلاً من الديون، قد لا تتمكن من تمويل هذه التحولات دون دعم دولي [٨].
استراتيجيات الوصول إلى الصافي الصفري بين الحلول الطبيعية والتكنولوجية
١. الثورة الخضراء في قطاع الطاقة
- الطاقة المتجددة: تشير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) إلى أن تكلفة الطاقة الشمسية انخفضت بنسبة ٨٢٪ منذ ٢٠١٠، مما يجعلها الآن أرخص مصدر للكهرباء في معظم الدول [٩].
- الهيدروجين الأخضر: يُنتج عبر تحليل الماء باستخدام الكهرباء المولدة من مصادر متجددة، ويمكن أن يكون بديلاً نظيفاً للوقود في الصناعات الثقيلة [١٠].
٢. إعادة تخيل النقل والمدن
- السيارات الكهربائية: تتوقع بلومبرغ أن تشكل السيارات الكهربائية ٥٨٪ من مبيعات السيارات الجديدة بحلول ٢٠٤٠ [١١].
- المدن الذكية: تصميم مدن تعتمد على المشي ووسائل النقل الجماعي، مع مباني مُحكمة العزل الحراري تُقلل من استهلاك الطاقة [١٢].
٣. حلول قائمة على الطبيعة
- إعادة التشجير: وفقاً لمبادرة Bonn Challenge، يمكن لاستعادة ٣٥٠ مليون هكتار من الغابات بحلول ٢٠٣٠ أن تمتص ما يعادل ١.٧ مليار طن من الكربون سنوياً [١٣].
- الزراعة الكربونية: ممارسات مثل الزراعة بدون حرث (No-Till Farming) تحافظ على الكربون مخزناً في التربة [١٤].
٤. تقنيات المستقبل: بين الواقع والخيال
- احتجاز الكربون وتخزينه (CCS): توجد حالياً ٦٥ منشأة كبيرة لاحتجاز الكربون حول العالم، لكن التكلفة العالية (ما بين ٤٠ إلى ١٢٠ دولاراً للطن) تحد من انتشارها [١٥].
- التقنيات السلبية: مثل نشر جسيمات عاكسة للشمس في الغلاف الجوي (Solar Geoengineering)، لكنها تثير مخاوف أخلاقية بسبب آثارها الجانبية غير المعروفة [١٦].
دور الأفراد – كيف تساهم كفرد في تحقيق الصافي الصفري؟
١. خيارات يومية تُحدث فرقًا
- النظام الغذائي: تقليل استهلاك اللحوم الحمراء (التي تساهم في ١٤.٥٪ من الانبعاثات العالمية) يمكن أن يخفض البصمة الكربونية الفردية بنسبة ٢٠٪ [١٧].
- الاستهلاك الواعي: شراء منتجات معمرة، وتجنب المواد البلاستيكية التي تُستخدم مرة واحدة [١٨].
٢. التحول إلى الطاقة النظيفة في المنزل
- تركيب الألواح الشمسية.
- استخدام أجهزة كهربائية موفرة للطاقة (مثل مصابيح LED) [١٩].
٣. الضغط من أجل التغيير
- دعم السياسيين الذين يتبنون أجندة خضراء.
- مشاركة المعرفة حول الصافي الصفري في المجتمع [٢٠].
دروس من النجاحات العالمية
١. السويد: رائدة الصافي الصفري
تسعى السويد لتحقيق الصافي الصفري بحلول ٢٠٤٥، عبر خليط من الطاقة المتجددة (٥٤٪ من الكهرباء من مصادر نظيفة) وفرض ضريبة كربون عالية (١٣٧ دولارًا للطن) [٢١].
٢. كوستاريكا: قوة الطبيعة
تعتمد كوستاريكا على ٩٨٪ من الكهرباء من مصادر متجددة (خصوصًا الكهرومائية)، وتخطط لتحييد انبعاثات جميع القطاعات بحلول ٢٠٥٠ [٢٢].
٣. الصين: العملاق الذي يتحول ببطء
رغم أنها أكبر مصدر للانبعاثات حالياً، إلا أن الصين تستثمر بقوة في الطاقة الشمسية (تمتلك ٣٥٪ من القدرة العالمية) وتخطط لتحقيق الحياد الكربوني بحلول ٢٠٦٠ [٢٣].
الخاتمة: الصافي الصفري – ليس خياراً، بل مصيرنا المشترك
الأثر الكربوني الصافي الصفري ليس مجرد مصطلح تقني، بل هو ميثاق أخلاقي بين الأجيال، يعترف بأن البشر جزء من النظام البيئي، وليسوا أسياده. رغم التحديات الهائلة، فإن الأدوات متاحة هي التكنولوجيا النظيفة، الحلول الطبيعية، والإرادة السياسية. لكن النجاح يتطلب شيئاً أعمق: تغييراً في القيم، حيث يصبح التعاون العالمي وحماية الكوكب أولوية تفوق المصالح الضيقة. كما يُقال: “نحن الجيل الأخير الذي يمكنه إنقاذ الكوكب، والأول الذي يدفع ثمن إهماله“. فلنكن عند مستوى المسؤولية.
المراجع
[١] IPCC. (2018). Special Report on Global Warming of 1.5°C.[٢] UNFCCC. (2015). Paris Agreement.
[٣] Burke, M. et al. (2018). “Global non-linear effect of temperature on economic production”. Nature.
[٤] World Economic Forum. (2020). The Future of Jobs Report.
[٥] Carbon Brief. (2021). “Analysis: Which countries are historically responsible for climate change?”.
[٦] International Energy Agency (IEA). (2022). World Energy Outlook.
[٧] Chatham House. (2018). “Making Concrete Change: Innovation in Low-carbon Cement and Concrete”.
[٨] United Nations. (2021). Financing Climate Action.
[٩] IRENA. (2021). Renewable Power Generation Costs in 2020.
[١٠] Hydrogen Council. (2021). Hydrogen for Net Zero.
[١١] BloombergNEF. (2022). Electric Vehicle Outlook.
[١٢] C40 Cities. (2020). The Future of Urban Consumption in a 1.5°C World.
[١٣] Bonn Challenge. (2021). Progress Report.
[١٤] FAO. (2019). Soil Carbon Sequestration for Climate Change Mitigation.
[١٥] Global CCS Institute. (2022). Global Status of CCS.
[١٦] National Academies of Sciences. (2021). Reflecting Sunlight: Recommendations for Solar Geoengineering Research.
[١٧] Poore, J., & Nemecek, T. (2018). “Reducing food’s environmental impacts through producers and consumers”. Science.
[١٨] Ellen MacArthur Foundation. (2017). The New Plastics Economy.
[١٩] IEA. (2021). Energy Efficiency 2021.
[٢٠] UNEP. (2020). Emissions Gap Report.
[٢١] Swedish Energy Agency. (2021). Sweden’s Climate Policy Framework.
[٢٢] Climate Action Tracker. (2022). Costa Rica Country Profile.
[٢٣] China National Renewable Energy Centre. (2022). Renewable Energy Development Report.