تطوير الذات
أخر الأخبار

المرونة النفسية في بيئات العمل الصعبة

في السنوات الأخيرة أصبحت بيئات العمل أكثر تعقيداً وضغطاً من أي وقت مضى بالنسبة لي . المنافسة عالية، الموارد محدودة، والسرعة المطلوبة في الإنجاز لا تترك للعاملين مساحة كافية لالتقاط أنفاسهم. ومع ذلك، وسط هذا المشهد المزدحم بالتوتر، برز مفهوم المرونة النفسية (Resilience) كإحدى أهم المهارات التي يحتاجها كل شخص يسعى للاستمرار والتفوق في مسيرته المهنية.

لقد مررت ببيئات عمل متنوعة: بعضها كان محفزاً وداعماً، وبعضها الآخر كان مليئاً بالتحديات والضغوط التي تكاد تُفقدك الرغبة في الإستمرار. ومن خلال التجربة والملاحظة، أيقنت أن الفرق بين من ينهار سريعاً أمام الضغوط ومن يستطيع التماسك ويكمل المسير لا يرجع بالضرورة إلى الذكاء أو الخبرة أو حتى المهارة، بل إلى مقدار ما يتمتع به من مرونة نفسية.

ما هي المرونة النفسية فعلًا؟

المرونة النفسية ليست مجرد تحمل للضغط أو الصبر السلبي حتى تمر الأزمة، بل هي قدرة متكاملة على:

  • التكيف مع المتغيرات بدلًا من الانكسار أمامها.
  • التعافي بسرعة بعد السقوط أو الفشل.
  • الحفاظ على الأمل والاتزان حتى حين يبدو الطريق مسدوداً.
  • تحويل التحديات إلى فرص للتعلم والنمو.

بمعنى آخر، المرونة هي القوة الداخلية التي تجعلنا قادرين على المضي قدماً رغم العوائق.

سمات بيئات العمل الصعبة

قد يسأل أحدهم: “ما الذي يجعل بيئة العمل صعبة أصلًا؟” الحقيقة أن الصعوبة قد تتشكل من عدة عوامل، ألخصها في التالي:

  • ضغط المواعيد: مشاريع متراكمة، تسليمات متقاربة، أو مهام تُطلب في اللحظة الأخيرة.
  • نقص الموارد: عدد موظفين أقل من المطلوب، أو إمكانات تقنية غير كافية لإنجاز المطلوب.
  • غياب الدعم الإداري: قيادات لا تستمع أو لا تنصف، أو حتى لا تُقدّر الجهد المبذول.
  • الصراعات الداخلية: تنافس غير صحي بين الزملاء، أو جو مشبع بالإشاعات والشكوك.
  • غياب التوازن بين العمل والحياة: حين يصبح وقتك الشخصي مستباحاً بلا حدود.

العمل في مثل هذه البيئات يشبه إلى حد كبير السير ضد التيار: يتطلب جهداً مضاعفاً للحفاظ على طاقتك النفسية والعاطفية.

عناصر بناء المرونة النفسية

لكي نتمكن من التعامل مع هذه الظروف، هناك مجموعة من العناصر التي تُشكل أساس المرونة النفسية في بيئة العمل:

  • الوعي الذاتي: أن تعرف نفسك جيداً، ما الذي يُرهقك بسرعة؟ ما الذي يحفزك؟ كيف تستجيب عادة للضغط؟ معرفة هذه التفاصيل تساعدك في توقع ردود أفعالك والتعامل معها بذكاء.
  • إدارة الضغوط: لا أحد يستطيع أن يلغي الضغوط، لكن يمكننا إدارتها. أحياناً مجرد استراحة قصيرة أو تنفس عميق يعيد ضبط أعصابك. تقسيم المهمة الكبيرة إلى أجزاء صغيرة يجعلها أقل رُعباً. حتى الحوار مع زميل مقرّب قد يخفف العبء.
  • التكيف السريع: في بيئات العمل المتقلبة، القدرة على تغيير الخطة أو تعديل أسلوبك بسرعة تمنحك أفضلية كبيرة. الموظف المرن لا يضيع وقته في مقاومة التغيير، بل يتكيف معه ويبحث عن طرق للاستفادة منه.
  • الدعم: وجود أشخاص تثق بهم في مكان العمل أو خارجه مهم جداً. مجرد الشعور بأنك لست وحدك، وأن هناك من يسمعك ويدعمك، يزيد قدرتك على التحمل.
  • الهدف والمعنى: حين تشعر أن عملك جزء من هدف أكبر، يصبح احتمال الاستسلام أقل. المعنى يمنحك صبراً إضافياً، ويجعلك ترى الصورة الكبيرة بدلاً من الانشغال فقط بالتفاصيل المرهقة.

كيف نُنمّي المرونة النفسية في حياتنا المهنية؟

  • إعادة صياغة التحديات: بدلاً من أن ترى الأزمة عائقاً نهائياً، انظر إليها كاختبار أو فرصة لتعلم شيء جديد. على سبيل المثال، فشل مشروع قد يكون درساً عملياً لا يمكن لأي دورة تدريبية أن تعطيه لك.
  • تقسيم المهام: واحدة من أكثر الاستراتيجيات فاعلية. المهام الضخمة ترهق العقل وتُشعرنا بالعجز، بينما تقسيمها إلى خطوات صغيرة يجعلها قابلة للإنجاز ويُشعرنا بالتقدم.
  • طقوس الاستراحة القصيرة: حتى في أجواء العمل المشحونة، بضع دقائق بعيداً عن المكتب كافية لإعادة شحن الطاقة. كوب قهوة، جولة قصيرة في الممر، أو حتى إغلاق العينين لبضع ثوانٍ.
  • التعلم المستمر: حين تطور مهاراتك بانتظام، تشعر بمزيد من الثقة والسيطرة. المعرفة تعطيك أدوات جديدة لمواجهة الضغوط.
  • وضع الحدود: المرونة لا تعني التضحية بنفسك طوال الوقت. تعلم أن تقول “لا” حين يُطلب منك ما يفوق طاقتك، فهذا يحميك من الاحتراق النفسي.

دروس من تجارب شخصية

أتذكر موقفاً في حين طُلب منا إنجاز مشروع كبير نسيباً في وقت قصير جداً. في البداية ساد التوتر والإحباط، لكنني قررت أن أتعامل مع الأمر بخطة صغيرة: لكن أول ما قمنا به هوإخطار الإدارة وطلبنا الدعم منهم في تسهيل إلإجراءات الداخلية ، قسمت المهام، وزعت المسؤوليات، وحاولت أن أزرع جواً من التعاون داخل الفريق. النتيجة أننا لم ننجز المشروع فقط، بل اكتشفنا أننا قادرون على العمل بشكل أكثر كفاءة مما كنا نظن.

الدرس الذي خرجت به هو أن الضغط نفسه قد يكون حافزاً على الإبداع إن تعاملنا معه بمرونة بدلاً من أن نتركه يهزمنا.

دور المؤسسات في تعزيز المرونة النفسية

صحيح أن المرونة تبدأ من الفرد، لكن المؤسسة أيضاً تتحمل مسؤولية كبيرة في هذا الجانب. من أهم الأدوار التي يمكن للشركات القيام بها:

  • توفير بيئة عمل عادلة وشفافة.
  • الاستثمار في برامج رفاهية الموظفين ودعم الصحة النفسية.
  • تشجيع ثقافة التعاون بدلاً من المنافسة السامة.
  • تقدير جهود الموظفين ومكافأتهم بشكل عادل.

المؤسسات الذكية تدرك أن الموظف المرن ليس فقط أكثر سعادة، بل أكثر إنتاجية واستمرارية.

المرونة كمهارة بقاء

في النهاية، يمكنني القول إن المرونة النفسية لم تعد خياراً إضافياً، بل أصبحت مهارة بقاء في بيئات العمل المعاصرة. هي التي تُمكّنك من الحفاظ على هدوئك وسط العواصف، وتُعطيك القدرة على النهوض في كل مرة تتعثر فيها.

التحديات لن تختفي، لكن نظرتنا لها وكيفية تعاملنا معها هو ما يُحدد إن كنا سنتجاوزها أقوياء أم سنتوقف عندها.

وأنا أؤمن أن أي شخص قادر على بناء مرونته النفسية بالتدريب والممارسة ولقد أتيحت لي الفرصة للتعلم والتدرب على هذه المهارة من خلال برنامج FORWARD المقدم على منصة McKinsey.org. قد تكون البداية صعبة، لكن مع الوقت تصبح المرونة عادة طبيعية نمارسها دون وعي، فنجد أنفسنا أكثر توازناً، وأكثر قدرة على الإنجاز، مهما كانت بيئة العمل قاسية. إن شعرت بالحوجة لمرونة نفسية في بيئة عملك الصعبة فهذا يعني على قدر عالي من تحمل المسؤولية والإلتزام.

م. الشيخ كمال

سوداني الجنسية ، ولد عام ١٩٩١م. مهندس حاصل درجة البكالريوس والماجستير في الهندسة الكهربائية ، ذو خبرة إدارية في مجال الطاقة المتجددة في قطاعات تطوير الأعمال، البحث والتطوير، المبيعات والتسويق، وإدارة حسابات العملاء، المناقصات، المقاولات، المشتريات، إدارة المشاريع ،التفاوض وإقفال الصفقات ، تطوير مشاريع الطاقة الشمسية، الإستثمار، فحص الجودة، تجربة العملاء ، التوظيف والتدريب، وغيرها. يمتلك المؤلف المهارات الكافية في القيادة والإدارة والتفاوض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى